يجيب هنا الدكتور جاسم المطوع عن السؤال المتعلّق بأبنائنا و هو التالي: من أين يتلقّون هذه التربية الخاطئة؟

أكثر الآباء والأمّهات يركّزون على التربية اللفظية من خلال التوجيه الكلامي، بينما هم يربّون أبناءهم بتأثير أكثر وأكبر من حيث لا يشعرون من خلال التربية غير اللفظية، وهو ما يعبّر عنه بـ لغة الجسد من خلال النظر والإشارة وتعابير الوجه وحركة الجسد واللباس والرائحة واللمس.

فالجسد يتكلّم ويوجّه ويربّي أكثر من اللسان، ولهذا نجد أنّ كثيرا من الآباء والأمّهات يستغربون من سلوكيات أبنائهم ويقولون إنّهم لا يعرفون أين تلقّوا هذه التربية الخاطئة، بينما لو راجعوا أنفسهم وسلوكهم ولغة أجسادهم لاكتشفوا أنّهم هم السبب.

فالتربية غير اللفظية تؤثّر بالقيم والسلوك أكثر من التربية اللفظية.

وأذكر أن أمّا سألتني عن سبب كثرة عصبيّة ابنها بينما هي توجّهه دائما بلسانها بأن لا يغضب ولم تجد لتوجيهها أيّ فائدة.

فسألتها: كم مرّة تغضبين باليوم؟

قالت: أنا عصبيّة ولكن ليس على ابني.

قلت لها: عندما تغضبين بالهاتف على صديقتك أو ترفعين صوتك على العاملة التي عندك بالبيت أو تتوتّرين عندما يتأخّر عليك الطعام بالمطعم، ويشاهد ابنك سلوكياتك العصبيّة هذه فتكوني أنت أعطيتيه درسا عمليّا بأنّ العصبية هي الطريق الصحيح للتعامل مع أحداث الحياة.

فأنت ربّيته بسلوكك وبلغة جسدك وهو الذي نسمّيه الحوار غير اللفظي وهذا تأثيره كبير جدا.

فقد ذكر خبراء الاتّصال والتواصل أنّ الإنسان يتأثّر باللغة اللفظية بنسبة 35% بينما يتأثّر باللغة غير اللفظية وهي لغة الجسد بنسبة 65%.

فلننتبه لسلوكنا أكثر من تركيزنا على كلامنا.

فالأب الذي يخبر ابنه بأنّه ذاهب للطبيب بينما هو ذاهب للسوق أو عند أصدقائه، فإنّ طفله يستطيع أن يقرأ وجهه ويعرف أنّه يكذب عليه وبالتالي يفقد الثقة به.

فالطفل مثل الإسفنجة يلتقط كلّ شيء ويتشكّل سلوكه بما يشاهد.

فلو نشأ في بيت يشاهد كلّ يوم والده يدخّن أمامه ففي هذه الحالة مهما علّمناه بلساننا بأنّ التدخين مضرّ يبقى تأثير لسان الحال والمقال والسلوك أكبر.

ولو راجعنا أنفسنا لاكتشفنا أنّنا ربّينا أبناءنا على قيم كثيرة لم نشعر أنّنا وجّهناهم لها بسبب تركيزنا على التربية اللسانية بالكلام أكثر من مراقبة لغتنا غير اللفظية مثل:

 1. هل نحن نتعامل مع عواطفنا بشكل صحّي فنعبّر عن مشاعرنا وحبّنا تجاه الآخرين أم لا؟

 2. وهل نمارس المودّة عمليّا في بيتنا فنحضن ونقبّل ونهدي أبناءنا وأهلنا أم لا؟

 3. وهل نعتذر لو أخطأنا؟ أم نكابر ونبرّر كلّ سلوك نعمله حتى لو كان خاطئا؟

 4. وهل نستهزئ ونحقر من أمامنا أو العاملين في أعمال متواضعة؟

5. وهل نشكر من قدّم لنا خدمة أو ساعدنا بما نحتاجه مثل كلمة “شكرا”، “يعطيك العافية”، “جزاك الله خيرا” أم لا؟

 6. وهل نتحدّث عن الأشخاص بسوء ونكشف أسرارهم وعيوبهم بعدما ينتهي اللقاء معهم؟

 7. وهل نحافظ على الصلاة والوضوء وقراءة القرآن والدعاء أمام أبنائنا أم لا؟

 8. وهل نحترم أصدقاءنا ونقدّرهم ونساعدهم ونحسن ضيافتهم أم لا؟

 9. وهل نأكل الطعام بشراهة وبسرعة ولا نتحدّث أثناء الطعام أو نملأ الصحن ونترك الطعام فيه أم لا؟

 10. هل نتحكّم بردود أفعالنا تجاه المواقف كعطل السيارة أو تأخّر السائق أو حالات المرض والوفاة والزواج والطلاق أم لا؟

 11. وهل نتعلّم ونقرأ ونشارك ببرامج خدمة المجتمع وبالنشاط الخيري أو التطوّعي أم لا؟

 12. وهل نبتسم ونمارس فنّ النكتة والمزاح مع الناس ومع العاملين أو مع أهلنا أم لا؟

إنّ مثل هذه المواقف المذكورة تربّي أبناءنا بسلوكنا أكثر منها بلساننا.

فالتربية كما قيل بالاحتكاك والمشاهدة وليست التربية بالكلام فقط.

وقد قرأت دراسة نشرتها صحيفة الشرقية اللندنية الصادرة في 15 سبتمبر تقول “إنّ حسّ الفكاهة يتطوّر لدى الأطفال الرضّع لما يرونه من ردود أفعال آبائهم”.

 ودراسة أخرى نشرت في نفس المصدر تبيّن أنّ الأطفال إلى سنّ 12 شهرا يستطيعون أن يكونوا رأيا لما يشاهدونه بسبب دقّة مراقبة والديهم لأيّ حدث هل هو يستحقّ الفكاهة أم لا”.

فإذا كان هذا على مستوى الفكاهة والمرح وعمر الطفل لم يتجاوز سنة فكيف بباقي السلوكيات، فهي من باب أولى.

 ومثل هذه القيم، الاحترام والتعبير عن الحبّ والاعتذار عند الخطأ وعدم الاستهزاء وغيرها يتعلّمها الطفل من خلال الحوار غير اللفظي أكثر.

ومن يتأمّل سيرة رسولنا الكريم في تعامله مع الصغار يكتشف أنّ رسولنا عليه الصلاة والسلام كان يعطي الصغير حقّه ويحترمه ويقدّره ويتعامل معه وكأنّه كبير، فلا يفرّق بينه وبين الكبار في المعاملة وإنّما ينظر عليه الصلاة والسلام للحقّ قبل أن ينظر للسنّ ويقدم الحقّ على السنّ، لأنه عليه الصلاة والسلام لو ظلم الصغير من أجل الكبير فإنّه سيترتّب على ذلك نشأة جيل يرى أنّ حقوقه مغتصبة فينتقم هذا الجيل من الكبار ومن المجتمع كلّه، ولكن عليه الصلاة والسلام يربّي الصغار من خلال الموقف ولغة الجسد بالإضافة إلى استخدام اللسان في العملية التربوية وقصّته مع الغلام تبيّن لنا ذلك وهي:

أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟

فقال الغلام: لا والله لا أؤثر بنصيبي منك أحدا.

فهذا ما نتمنّى أن نصل إليه في تربيتنا، أن نربّي بسلوكنا ثم ندعم تلك القيمة بحوارنا.

بقلم د. جاسم المطوع

مقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.