سنتكلّم هنا عن  دور الأسرة في بناء شخصية الطفل و نبيّن كيف أنّها هي الحضن الأوّل له.

تعتبر الأسرة كجماعة من الأفراد المتفاعلين مع بعضهم البعض أهمّ الأنظمة والهيئات الاجتماعية التي تقوم بعملية التطبيع الاجتماعي للجيل الجديد.

أي أنّها تنقل إلى الطفل خلال مراحل نموّه الثقافة الاجتماعية الغالبة على مجتمعها، إذ يقوم الأبوان بغرس العادات والتقاليد والمهارات والقيم الأخلاقية في نفس الطفل لمساعدته على القيام بدوره الاجتماعي والإسهام في بناء المجتمع.

 وظائف الأسرة تجاه الطفل:

 إنّ الأسرة هي المكان الأوّل لتبلور شخصية الطفل بما يتأثّر به من التفاعلات الاجتماعية والمعايير الخلقية التي يتعرّض لها. 

ففي الحياة المنزلية يتكوّن الطابع المميّز لشخصية الطفل، والذي يلعب دورا هامّا في رسم الحياة المستقبلية، وإن كانت هذه الصورة تتعرّض لمؤثّرات اجتماعية أخرى من شأنها أن تحوّر أو تهذّب بعض السمات التي اكتسبها الطفل من المحيط الأسري.

 وفيما يلي أبرز الوظائف التي تؤدّيها الاسرة:

أوّلا: الإشباعات الفردية: 

إنّ إحدى أهمّ الوظائف الرئيسة للأسرة هي تحقيق الإشباعات الفردية والتي تتمثّل في الشعور بالانتماء إلى الجماعة والحصول على المكانة الاجتماعية المرموقة وتحقيق الذات والشعور بالأمن ضدّ العوز والطمأنينة والاستقرار… إلخ.

 لكن بعض التغيّرات الاجتماعية التي حدثت في وقتنا الراهن سلبت الأسرة كثيرا من وظائفها التقليدية التي كانت تجعلها أمرا ضروريّا لكلّ فرد بحيث يصعب عليه الاستغناء عنها. 

فالتصنيع مثلا أدّى إلى خروج المرأة إلى الحياة العامّة ونزولها إلى ميدان العمل خارج النطاق الأسري والذي يتطلّب تواجدها لفترات طويلة بعيدا عن الأسرة، فإذا ما عادت كانت شبه منهكة، الأمر الذي قد يضعف من كمّيّة العطاء المطلوب من جانبها. 

وكذلك هو الحال بالنسبة للرجل أيضا، فظروف المعيشة مثلا تقتضي تواجده خارج المنزل لفترات طويلة في أغلب الأحيان ممّا يسلب قدرته على العطاء الأسريّ المتكامل.

 وكان من نتائج انتقال الأسرة للحياة المدنية أن توقّفت الأسرة عن توفير الأمن ضدّ العوز والوحدة في مرحلة الشيخوخة. 

وبغياب مثل هذه الأمور وغيرها من وظائف الأسرة الضرورية، تحوّل الزواج وتكوين الأسرة إلى مسألة اختيار أكثر من كونه مسألة ضرورية. 

وهنا يمكننا القول بأنّ هذا التحوّل أسهم بدور فعّال في زيادة نسبة الطلاق في المجتمعات الحاضرة. 

وعلى الرغم من تدهور هذه الوظيفة وضمور أهمّيتها إلاّ أنّ الإقبال على الحياة الأسرية لا يزال مستمرّا، ذلك لأنّ الأسرة لا تزال هي الطريق المفضّل لتوفير الكثير من الإشباعات التقليدية.

 فالأسرة دائما تميل إلى التعبير عن نمط الإشباعات الدائمة للعلاقات الشخصية المتبادلة.

 ثانيا: تحقيق إنجازات المجتمع:

 من غير المنطقي فصل الأسرة عن أيّ جانب من جوانب المجتمع أو إبعادها نهائيا عن أيّ تغيّر يحدث فيه أو يطرأ عليه.

 فالأسرة تعتبر الوحدة الأوّلية التي يعمل من خلالها النظام السياسي، والنظام الاقتصادي، والنظام الديني لأيّ مجتمع، فالأسرة: 

– تقوم بالمحافظة على أعضائها الذين هم أعضاء المجتمع وتعدّهم للعمل والتفاعل الاجتماعي. 

فصغر حجم الأسرة كفيل بأن يحقّق وجود المسؤولية المتبادلة التي تعمل على توفير الرفاهية الجسمية والنفسية لكلّ فرد فيها. 

كما أنّها تقوم بتأكيد وجود الشعور بالانتماء وتوفير الاستجابات المتبادلة، تعمل على تمكين الفرد لبذل المشاركة الاجتماعية في مختلف المجالات.

 – تحفظ أفراد المجتمع من الانحراف حيث يقوم المجتمع بتفويض الأسرة في تحمّل مسؤولية حماية المواليد ورعاية حاجاتهم الجسمية والنفسية والحرص على تكامل شخصياتهم. 

– تنقل مكانتها الاجتماعية بصورة آلية إلى أفرادها، وهذا ما يحدّد المكانة الأولى للفرد التي تحدّد بالتالي الطريقة التي يسلكها الآخرون نحوه حتى يغيّر أو يدعم مكانته الخاصّة عن طريق الأعمال الذاتية. 

فالأسرة تمارس بذلك وظيفة الإدماج في المجتمع وتساعد في وضع الأفراد في مراكزهم المختلفة التي تحكم تفاعلهم مع الآخرين.

 تقوم بعملية التطبيع الاجتماعي عن طريق تنمية العواطف الاجتماعية لدى الصغار والمحافظة عليها لدى الراشدين. 

– تعتبر مؤسّسة لنقل الثقافة إلى الأعضاء، فعن طريق الأسرة يكتسب الفرد أولى خبراته في المشاركة الاجتماعية، وأوّل اتجاهاته نحو تحقيق مركزه الاجتماعي المستقبلي. 

– تعتبر من أدوات الضبط الاجتماعي الهامّة التي تحقّق التجانس، فقد يتجنّب الفرد أيّ انحراف من ناحية السلوك أو التفكير مخافة أن يجلب المشاكل والعار لأسرته أو يهدّد رفاهيتها الاقتصادية أو الاجتماعية، أو يضعها موضع الازدراء من قبل أفراد المجتمع المحيط.

 ثالثا: الوظيفة الاقتصاديّة:

 إنّ من مميّزات الأسرة الحديثة أنّها أسرة بسيطة، أي مكوّنة من الزوج والزوجة والأبناء فقط. 

وتبعا لذلك فإنّ العلاقات الاجتماعية بين أفرادها والأقارب ـ أبناء العمّ أو الخال أو الأصهار ـ قد نالت جانبا غير يسير من الضعف كنتيجة للمطالب المادّية والضغوط الثقافية المعقّدة التي تستنفذ جهد الأفراد وتشلّ تفكيرهم. 

ومن الملاحظ أنّ في بعض المجتمعات كالمجتمعات الريفية مثلا لا تزال الأسرة ممتدّة أو مركّبة بحيث تشمل جيلين أو أكثر وتمارس الكثير من جوانب الوظيفة الاقتصادية، فلا تزال بعض العمليات الانتاجية تمارس في البيت. 

كذلك بالنسبة للإشراف على التوزيع والتبادل الداخلي، ولا تستهلك الأسرة عادة إلاّ بقدر إنتاجها وحاجتها. 

ولكن في وقتنا الراهن، قضى الإنتاج الصناعي على هذه الوظيفة الأسرية في المجتمعات الحضرية، وتحوّلت الأسرة فيها إلى وحدات استهلاكية بدرجة كبيرة، وبالأخصّ بعد أن هيّأ المجتمع منظّمات جديدة تقوم بعمليّات الإنتاج الآلي وتوفير السلع والخدمات بأسعار أقلّ نسبيّا. 

ولمّا كانت الصناعة الحديثة تعتمد على الأيدي العاملة المدرّبة فقد عجزت الأسرة عن توفير القدر الملائم من التدريب المهني الذي يمكّنهم من مسايرة هذا التغيير، فأجبر أفراد الأسرة بذلك على الخروج خارج نطاق الأسرة للسعي للعمل خارج المحيط الأسري، ممّا أدّى إلى نشأة علاقات وروابط اقتصادية خارجية، وبعد أن كان الأفراد يعملون جميعا تحت سقف واحد سواء في العمل الزراعي أو الحرفي، انتشروا للعمل في أماكن مختلفة ومتعدّدة، واستطاع الفرد تحقيق استقلاله الاقتصادي وتيسّرت أمامه مرونة الحركة وفرص العمل. 

وبذلك نمت الروح الفردية لدى الفرد ولم تعد الأسرة هي المكان الوحيد لإشباع الحاجات المادّية.

 ومن جانب آخر، فإنّ الزيادة المستمرّة في نفقات المعيشة ورغبة الأسرة في رفع مستواها المادّي أدّى إلى نزول المرأة إلى ميدان العمل، ومشاركتها في إعالة الأسرة ومساعدة الزوج في تحمّل مسؤوليات المعيشة. 

وتكون المرأة بذلك قد حقّقت الاستقلالية الاقتصادية، فهي لم تعد عبئا على زوجها وأولادها في إشباع حاجاتها المادّية.

 وتبعا لذلك فقد أصبحت المرأة ترفض كونها مجرّد فرد يدلي بآراء ثانوية في الأسرة، ومن ثمّة بدأت الأسرة تتّجه نحو الديمقراطية التي يقف فيها كلا الزوجين على قدم المساواة في الظهور. 

كذلك من نتائج الحياة الحضرية أيضا، ظهور الكثير من السلع والخدمات التي اتّخذت موقع الضرورة في الحياة الأسرية. 

ولمّا كان دخل الأسرة لا يسمح لها بأن تفي بهذه المطالب المتجدّدة، فقد جنحت الأسرة الحضرية إلى استنفاذ مدّخراتها أوّلا بأوّل أو الاستدانة ممّا يشكّل طوقا تحاصر به الأسرة. 

رابعاً: تنظيم السلوك الجنسي والإنجاب: 

يتضمّن الزواج مجموعة من القواعد والتعليمات التي تحدّد حقوق وواجبات وامتيازات كلّ من الزوج والزوجة تجاه بعضهما البعض، وكذلك بالنسبة للأبناء والأقارب وباقي أفراد المجتمع. 

هذه القواعد والتعليمات تمثّل في جملتها تنظيمات اجتماعية تتحكّم فيها العادات والتقاليد.

 أي أنّ الزواج عبارة عن اتفاق تعاقدي يقوم على الثبات والاستمرار ويؤدّي إلى تكوين وتقوية العلاقات الاجتماعية التي تتضمّنها الأسرة.

 ويعتبر المجتمع كلّ ما ينتج عن العلاقات غير الخاضعة لهذه النظم أمورا غير معترف بها. 

خامساً: إعالة الأطفال وتربيتهم:

 تسلّم كافة المجتمعات بأهمّية الدور الذي تقوم به علاقة الطفل بباقي أفراد أسرته في تكوين شخصيّته وخلقه. 

فالطفل يكتسب عادات واتّجاهات ومعتقدات الجماعة التي ينتمي إليها من خلال اتّصاله بغيره من الأشخاص. 

إنّ قيام الأمّ برعاية الطفل ومداعبته وإطعامه وتقديم الخدمات الطبيعية المختلفة له يعتبر بداية تكوين العلاقات الاجتماعية المختلفة.

 وقد تبيّن من خلال الدراسات المقارنة والإحصائيات أنّ الأطفال الذين يلحقون بالمؤسّسات الإيوائية رغم توفّر الرعاية المادّية لهم وإشباع حاجاتهم الجسمية، إلاّ أنّهم لا ينجحون في حياتهم الاجتماعية ما لم تشبع لديهم الحاجات النفسية.

 كما أنّ مستوى تفكيرهم ومهاراتهم وقدراتهم على تكوين العلاقات الاجتماعية الايجابية تكون أقلّ منها بالنسبة للأطفال الذين عاشوا في كنف أسر حاضنة. 

وقد دلّلت هذه الدراسات على أنّ هؤلاء الأطفال عادة ما يكونون أكثر عرضة للاصابة بالاضطرابات النفسية والمشكلات الشخصية مستقبلا.

 إنّ المسؤولية الأولى في تعليم الصغار العادات والتقاليد الاجتماعية في كافّة المجتمعات تقع على عاتق الأسرة. 

ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى أنّ الأسرة وحدها هي التي تقوم بتزويد الطفل بمختلف الخبرات خلال سنواته التكوينية. 

في حين يبدأ دور المؤسّسات الاجتماعية الأخرى كالمدارس ودور الحضانة في مرحلة لاحقة، ويكون متوقّفا على مدى نجاح الأسرة في أداء دورها.

 هذا بالإضافة إلى أنّ الأسرة تمثّل أكبر قوّة اجتماعية يمكن أن تؤثّر على الفرد فتدفعه إلى ممارسة سلوك معيّن سواء بالسلب أو الإيجاب. 

كما أنّ الأسرة تعتبر أكثر الجماعات الأوّلية تماسكا ممّا يؤدّي إلى نموّ الألفة والمحبّة والتعاون والشعور بالانتماء بين أعضائها. 

هذا إلى جانب أنّ مكانة الطفل في الأسرة هي التي تحدّد مكانته الاجتماعية في المستقبل.

 سادسا: الوظيفة النفسية: 

تلعب الوحدة الأسرية دورا بارزا في نموّ الذات وتحافظ على قوّتها إذ توفّر بناءا محدّدا للذات ومن ثمّ لا تسمح لها بإدراك الواقع أو التنبّؤ بالسلوك في المواقف المختلفة. 

بالإضافة إلى أنّ الأسرة بمثابة عالم صغير يرتبط بروابط وثيقة من العلاقات الشخصية المتبادلة التي لا يمكن أن تتوفّر بنفس الدرجة في العالم الخارجي.

 والفرد في الأسرة ليس مجرّد ذات فحسب، بل إنّه جزء من كلّ ما يرتبط معه بروابط متينة يحصل منه على قوّة وحيويّة الانطلاق للعالم الخارجي.

 ويمكن أن نتصوّر الأهمّية الخاصّة للأسرة كوحدة نفسية عند تقييم ما يبديه كلّ من الزوج أو الزوجة أو الأبناء من مقاومة واعتراض عند إثارة موضوع انفصال الزوجين وإنهاء الحياة الزوجية والأسرية.

 إذن فالوحدة الأسرية النفسية تزوّد الطفل بمصدر دائم للشعور بالأمن والاستقرار، وتوفّر الخبرات التي يمرّ بها الطفل باعتباره جزءا من هذه الوحدة.

المصدر: موقع تربية

مقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.