هناك مصيبة في خمسة بيوت سنوضّحها أدناه.
ركبت سيارة الأجرة في إحدى العواصم العربية، وبدأت أتحدّث مع السائق عن حاله، فحدّثني عن مشكلة عائلية واجهته منذ خمس سنوات، عندما طلبت منه زوجته الطلاق وتركت له ستّة أولاد، أصغرهم عمره سنة واحدة، فاضطّر للتّخلي عن عمله أحيانا، وتفرّغ لتربية أولاده ولعب دور الأمّ والأب معا، حتّى أنّه كان يطبخ لهم الطعام، فقلت له: ولماذا لم تتزوّج أخرى لتساعدك في تربية أولادك الستّة؟ فقال: ومن يتحمّل أن يربّي ستّة أولاد معي وأنا حالتي المالية كما تشاهد، ثمّ تحاورنا في المعاناة التي عاشها مع أولاده، وكان كثيراً مايردّد كلمات الشكر والحمد لله على ما قضى، وأنّه يأمل من هذا الابتلاء أن يكون سببا في دخوله الجنّة، فأعطاني درسا في الصبر والشكر.
وأذكر قصّة أخرى لرجل آخر متزوّج ولم يرزق بالأبناء، وبعد مرور عشر سنين من المحاولات الدائمة والفشل في الإنجاب تزوّج بأخرى، فدخل في ابتلاء الضرّة وعاش معاناة التعدّد، ثمّ حملت الزوجة الثانية بتوأمين، فقضى تسعة أشهر من حياته، وكانت كما يقول أسعد أيّام حياته وهو ينتظر التوأم، ولكن المفاجأة كانت أنّه عندما ولدت زوجته، مكث الولدان أيّاما ثمّ توفّاهما الله تعالى، فصبر واحتسب وفوّض أمره لله مع ترديد عبارات الشكر لله، ولو رآه القارئ لتعلّم منه درسا في الصبر والرضا بقضاء الله تعالى.
إنّ الحديث عن الابتلاء سهل ويسير، وتقديم محاضرة في الصبر أسهل بكثير، ولكن مكابدة الابتلاء والصبر عليه لحظة بلحظة، مع الشعور بأنّ الله كتب الخير في هذا الإبتلاء أمر صعب وشديد على النفس.
ولهذا نلاحظ أنّ بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تعرّض لابتلاءات كثيرة حتّى يكون قدوة للناس، منها أنّه فقد ابنه “القاسم” وهو صغير عندما بدأ المشي وعمره سبعة عشر شهرا، ثمّ فقد ابنه “عبد الله” وهو ابن أيّام، وبعد النبوّة توفّيت زوجته “خديجة” رضي الله عنها، وعمّه “أبو طالب” في عام واحد، وفي السنة الثانية للهجرة توفّيت ابنته “رقيّة”، ثمّ توفّيت “زينب” أختها في السنة الثامنة للهجرة، وفي السنة التاسعة للهجرة توفّيت “أمّ كلثوم”، ثمّ قبل وفاته بأيّام أخبر “فاطمة” بأنّها ستلحقه إلى الرفيق الأعلى، فتوفّيت بعده بستّة أشهر.
فما أعظم مصيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث فقد أولاده في حياته وكان صابرا شاكرا، وكذلك باقي الأنبياء، “فآدم وحوّاء” ابتليا في أولادهم، “وإبراهيم” عليه السلام ابتلاه الله بذبح ابنه، “ويعقوب” عليه السلام ابتلاه الله بفقد ابنه يوسف وغيابه، “وأمّ موسى” ابتلاها الله برمي ابنها في البحر، وغيرها من الابتلاءات الكثيرة، ولكن كما قيل: من رأى مصيبة غيره هانت عنده مصيبته، فهذه مصائب في خمسة بيوت من بيوت الأنبياء ابتلاها الله في أبنائها، وقد ذكرتها بعد قصّة سائق الأجرة والرجل الذي تزوّج بزوجتين، ولو تأمّلنا لوجدنا أنّ كلّ واحد منّا لديه ابتلاء في بيته أو زوجته أو أبنائه.
ولهذا القرآن ذكر تفاصيل دقيقة للإبتلاء الأسري، حتّى يكون سندا لكلّ أب أو أمّ يبتليهم الله تعالى في أبنائهم ليختبرهم ويمتحن صبرهم، قال تعالى: “ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات”، ثمّ ذكر الله تعالى: “وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون”، ويكون الجزاء من الله وحده “أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون” ، فهذه بشارة لكلّ مبتلى أسريّا.
بقلم د. جاسم المطوع