يتناول هنا الدكتور جاسم المطوع موضوعا يبيّن فيه ما هو الحب الذي يدمر الأبناء.

“ومن الحبّ ما قتل” قيلت لشابّ قتل نفسه بسبب حبّه لعشيقته التي لم يتمكّن من الوصول إليها، ولم يكن في ذهن الشاعر وهو الأصمعيّ أنّ جرعة الحبّ التي نعطيها لأبنائنا أثناء تربيتهم إذا زادت عن حدّها المعقول فإنّها تقتلهم وتدمّرهم أيضا.

فقد دخلت عليّ امرأة تشتكي من عناد زوجها وتسلّطه وكثرة عصبيّته وصراخه خاصّة إذا لم يستجاب لأمره، فلمّا بحثت في الأسباب عرفت أنّه وحيد أمّه من الذكور، وكان لا يردّ له طلبا عندما كان طفلا، فكان حبّها الزائد له دمّر شخصيته وأخلاقه.

ولو أنّها عرفت كيف توازن بين “الحبّ” و “الحزم” لما كانت عشرته الآن جحيما.

وقد يظنّ كثير من الآباء والأمّهات أنّ الحزم يناقض الحبّ، والصواب فإنّ الحزم من الحبّ.

فإذا كانت ال “حبّ” كلمة من حرفين، فإنّ ال “حزم” كلمة من ثلاثة حروف، وكأنّ الحرف الثالث يقول لنا لا بدّ من زيادة جرعة الحزم على الحبّ أثناء التربية. وقد جمعت في هذا المقال ستّة أنواع من الحبّ المدمّر التي عشتها شخصيا، لكثير من القصص والحالات التي تعرض عليّ وهي على النحو التالي:

1. الخوف الدائم: إنّ شدّة الخوف على الأبناء حتى يصل الخوف لدرجة الوسواس يدمّر شخصيتهم ويمحوها من الوجود، ويتحوّل الطفل إلى آلة تمشي بالبطارية، لأنّه تمّ إلغاء عقله ووعيه بسبب شدّة خوف أمّه أو أبيه عليه، سواء كان الخوف من الظلام أو الحشرات أو الأصدقاء أو الحيّ أو التكنولوجيا أو أيّ مصدر آخر.

 2. الإستجابة لرأيه: يخاف كثير من الآباء والأمّهات الضغط على أبنائهم عندما يكون الأمر لمصلحتهم، مثل الإشتراك بنادي رياضي أو حضور حلقة تحفيظ للقرآن أو غيرها، ويستجيبون لابنهم إذا رفض الحضور والمشاركة بحجّة الخوف على نفسيته وصحّته، فيتحوّل الطفل إلى أن يكون هو المربّي لوالديه وهو المدير لهما، فيقودهم حيث يشاء ويشتهي، فيتحوّل لشخصية مغرورة متكبّرة لا يسمع لأحد ولا يأخذ رأي أحد ولو كان والديه.

 3. اللباس والتغذية: كثير من الآباء والأمّهات يستمرّون في اختيار اللباس لأبنائهم إلى عمر متقدّم، وبعضهم يعتقد أنّه كلّما وفّر الطعام لطفله كلّما عبّر عن حبّه أكثر، فتجده دائما يعلف ابنه وكأنّه الطفل خلق ليأكل فقط، وفي الحالتين فإنّنا نخرج طفلا ضعيف الشخصية لا يحسن اتّخاذ القرار حتى في ملابسه، ولا يحسن التعبير عن حاجاته لأنّنا نوفّر له الطعام دائما وهذه من السلوكيات التي تدمّر شخصيتهم.

 4. التدليل الزائد: من المبادرات الخاطئة وإن كان الدافع حبّا كثرة الإغداق على الطفل بالهدايا والعطايا، وحلّ الواجبات المدرسية نيابة عنه، وسرعة التصرّف لعلاج المشاكل التي تواجهه بالحياة، فإنّ هذه السلوكيات توجد في الطفل أربع صفات: الأولى يكون طمّاعا، والثانية أنانيا، والثالثة لا يتحمّل المسؤولية، والرابعة دائما يريد أن يحصل على ما يريد من غير بذل جهد أو تعب.

 5. حبسه بالبيت: الخوف أحيانا يقود الأمّهات والآباء لحبس أبنائهم في البيت بين أربعة جدران، فلا يلعب مع أحد في الخارج، وإذا طلب الإشتراك بنادي رياضي أو اسطبل خيل أو سباحة أو مراكز علمية أو ثقافية يمنع بحجّة أنّهم يخافون عليه من التأثّر بالآخرين، وهذا من الخوف المدمّر لشخصية الطفل.

 6. تعويض التقصير: في كثير من الحالات مرّت عليّ بدافع التعويض عن التقصير الذي يشعر به بعض الآباء والأمّهات بسبب ظرف العمل أو الطلاق أو الغياب عن البيت وكثرة السفر، فإنّ الوالدين يكون لديهم ردّة فعل قويّة بدافع الحبّ فيعوّضان تقصيرهم بالإستجابة لكلّ طلبات الأبناء ممّا يسبّب إفسادهم تربويا.

فقد عرضنا ستّة حالات للحبّ المدمّر وعكسها هو الإهمال المدمّر للأبناء وتفويض الآخرين بالتربية.

فالخوف على الأبناء مطلوب ولكن لا بدّ أن يكون متّزنا ويرافقه الحزم.

وقد ذكر الخوف في القرآن 124 مرّة، وله سبعة معان مفصّلة في كتاب الله تعالى، ولكن ما يهمّنا هنا “الخوف التربوي” والذي يؤدّي لضعف شخصية الأبناء.

ولهذا عندما تحدّث القرآن عن خوف الأمّهات تجاه أبنائهم، أوصاهم الله تعالى بضبط مشاعر الخوف إذا كان التنفيذ لأمر الله تعالى، وضرب الله لنا مثلا في قصّة أمّ موسى عندما قال تعالى “وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ، ولا تخافي ولا تحزني، إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين”.

 فنلاحظ هنا كلمة “الخوف” وردت مرّتين، الأولى “فإذا خفت عليه”، والثانية “فلا تخافي”، ففي الأولى يثبت الله أنّ مشاعر الخوف أمر طبيعي من الوالدين تجاه الأبناء، وفي الثانية يعلّمنا الله كيف ندير مشاعرنا ومخاوفنا لنحسن تربية أبنائنا حتى لا يكون الخوف مدمّرا لهم.

والمنطق يقول أنّ أمّ موسي إذا خافت على طفلها الرضيع فإنّها تضعه بمكان آمن على الأرض أو عند إحدى العوائل لكي تخفيه، ولكن الغريب في الأمر أنّ الله أمرها بأن تقذفه في مكان لا يتصوّر أحد أنّه سينجو منه وهو البحر حتى يعطينا الله درسا في تربية الأبناء بأنّنا كلّما اتّبعنا أوامر الله في تربية أبنائنا كلّما حفظ الله الأبناء كما حفظ موسى عليه السلام من الغرق عندما كان رضيعا وحفظه من الغرق مرّة أخرى عندما كبر وتبعه فرعون وجنوده.

بقلم د. جاسم المطوع

مقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.