موضوعنا يدور حول الأمومة و الأبوة و أثرهما على التربية السليمة للطفل. تبدأ الأسرة أوّل ما تبدأ بزوجين، رجل وامرأة يربط بينهما رباط مقدّس هو الزواج الشرعي المعلن الذي يباركه الله، ويقدِّره الناس، وتقوم على أساسه حقوق وواجبات، ويهب الله سبحانه وتعالى لمن يشاء منهم الإناث ولمن يشاء الذكور، فتكون الأمومة والأبوة وتكون البنوّة.

وتبدأ الأسرة الضيّقة في الاتّساع شيئًا فشيئًا؛ فالأولاد هدف أساسي من أهداف الأسرة، وأهداف الزواج، عملًا بقوله تعالى: ” وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً” (النحل: 72).

حقوق وواجبات

بمجرّد ولادة الأولاد في الأسرة تنشأ “الأمومة والأبوة” وهما المعنيان الكبيران أو النبعات الدافئات بالحبّ والحنان والإيثار.

ولكلّ من الأمومة والأبوة حقوق وعليها واجبات.

فأمّا حقوق الأمومة والأبوة، فأوّلها على الأولاد، أبناء كانوا أو بنات، حقّ البرّ والإحسان.

وهو حقّ دعت إليه الديانات السماوية جميعًا، ويشدّد الإسلام في برّ الوالدين والإحسان بهما.

يقول تعالى: ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ” (الإسراء: 23 و 24).

وإذا كان الإسلام أوصى بالوالدين بصفة عامّة، فإنّه أشار إلى معاناة الأمّ أكثر ممّا يعانيه الأب.

لذا أوصى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالأمّ ثلاث مرّات وبالأب مرّة واحدة.

كما أنّه لا تقتصر رعاية الأمومة والأبوة على الأولاد وحدهم، بل على المجتمع كلّه أن يرعى أمومة المرأة حتى أن تلد.

وإذا كانت موظّفة فينبغي أن يخفّف عنها عبء العمل الوظيفي.

وإذا وضعت فلا بدّ أن تعطى إجازة مناسبة للأمومة والإرضاع، على أن يكون ذلك براتب كامل لأنّها تؤدّي للمجتمع مهمّة لها قدرها وأهمّيتها.

ذكر البروفيسور جاري بيكر الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أنّ المرأة الجالسة في بيتها لرعاية الأولاد وحسن تنشئتهم تساهم في تنمية الاقتصاد القومي بنسبة 25% إلى 50%، وهذا ما يجهله الكثيرون الذين يحسبون أنّ المرأة التي تقوم بمهمّة الأمّ في بيتها عاطلة، وقد تمثّل في نظرهم عبئًا على الإنتاج القومي.

وإذا كانت الأديان كلّها قد عنيت بالأمومة وحقوقها فإنّ هناك ما يضيّعها.

فمسألة تقسيم الأمومة بين امرأتين: الأمّ المورثة والأمّ الحاملة والوالدة إفساد لمعنى الأمومة التي عنيت بها الأديان، ورتّبت عليها حقوقًا وواجبات، فقد ضاع معنى الأمومة، وتاهت حقيقتها بين المرأتين المذكورتين.

فلئن كانت صاحبة البويضة هي التي تنقل إلى الطفل كلّ ما يمكن أن يرثه منها ومن أبيه ومن أسرتيهما فإنّ صاحبة الرحم هي التي عانت ما عانت في حملها وولادتها، وغذّته طوال فترة الحمل من دمها.

وهذه المعاناة لها أهمّيتها ودورها في إبراز معنى الأمومة واستحقاقها بسببها البرّ والإحسان.

يتيم الأبوين.. وهما حيّان

حرمان الطفل من أحد والديه، مثل حرمانه من أب ينتسب إليه ويشعر برعايته له جريمة كبرى وإثم عظيم، كما نرى ذلك في قضية أولاد الحرام الذين تحمل بهم أمّهاتهم حملًا غير شرعيًا.

فموجة الإباحية التي قذفت بها الحضارة المعاصرة هي التي أدّت إلى ظهور أمّهات غير متزوّجات، وذلك نتيجة انتشار الزنى، وحمل النساء من الحرام، وهو الذي حرم الأبناء والبنات من آبائهم الحقيقيين.

وأشنع من ذلك محنة اللقطاء الذين لا ذنب لهم إلا شهوة الآباء والأمّهات، فعاش الابن يتيم الأبوين وهما موجودان بل أكثر من ذلك عاش مجهول الأبوين.

تكامل التربية

تربية الأطفال تتطلّب ما هو أكثر من الجهد؛ فالطفولة الإنسانية هي أطول طفولة وأعسرها بالنسبة للحيوانات كلّها.

فمن الحيوانات والطيور ما يصبح صالحا للحركة والانطلاق بمجرّد ولادته، ولكن الله تعالى علّم أنّ الإنسان يحتاج إلى طول عناية وتدريب وتعليم وتأديب.

ومن هنا جاءت مسئولية الأبوين اللذين أنجباه، وكانا سبب خروجه من ظلمة العدم إلى نور الوجود، ومسئوليتهما عن رعاية الجانب المادّي في حياته وعن رعاية الجوانب الأدبية والروحية كذلك، وأوّل ما يجب على الأبوين هو إرضاع الطفل.

ولكن الحضارة الحديثة أوحت إلى النساء أن يضننّ على أطفالهنّ بلبنهنّ ويكتفين بالرضاعة الصناعية، ليحتفظن برشاقة الجسم.

فحقيقة الرضاعة ليست مجرّد وصول اللبن إلى معدة الطفل، بل هي أكبر من ذلك وأعمق؟ إنّها التصاق بصدر الأمّ وشعور بدفء حنانها، حين تضمّه إليها، ويمتصّ من ثديها غذائه المادّي، ومن حرارة قلبها ووجدانها غذاءه العاطفي، على أنّ لبن الأمّ لا يعادله لبن آخر صناعي.

أما حقّ رعاية اليتيم فالإسلام يعتبر كفالة اليتيم من أعظم الأعمال الصالحة التي تقرّب إلى الله عزّ وجلّ.

وقد طلب الإسلام من المجتمع المسلم أمرين يتعلّقان باليتيم.

الأوّل المحافظة على ماله إن كان له مال، قال تعالى: ” وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ” (الأنعام: 152).

والثاني الحفاظ على شخصية اليتيم فلا يقهر ولا يدع ولا يهان كما قال سبحانه وتعالى: ” فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ “.

وأسوأ من ذلك أن يبتلى الطفل بأبوين مشغولين عنه لا يفكّران فيه؛ فهذا هو اليتيم الحقيقي الذي قال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي:

ليس اليتيم من انتهى أبواه  **  من همّ الحياة وخلّفــاه ذليلا

فأفاد بالدنيا الحكيمة منهــا  **  وعاش تعليم الزمان بديلا

إنّ اليتيم هو الذي تلقى له  **  أمًّا تخلّــت أو أبًا مشغولا

ومن تكامل الأبوة والبنوة أن يتفاهم الوالدان ويتعاونا معا على حسن تربية الأولاد تربية متكاملة، روحيًا بغرس الإيمان والعبادة، وعقليًا بحسن الفهم والثقافة، وخلقيًا بحسن الأدب والفضيلة، وجسميًا بالنظافة والرياضة واجتماعيًا بحبّ الخير وخدمة الجماعة، وسياسيًا بتعليمه الولاء لأمّته ولعقيدته، وفنّيًا بغرس الشعور بالجمال في الكون من حوله.

وهذه التربية مهمّة صعبة يسأل عنها الوالدان معًا، كما قال النبيّ الكريم: ” كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيّته ” وليس بما يكتفي بعض الآباء بتوفير الناحية المادّية لأولادهم فقط.

ومن تكامل الأمومة والأبوة أن يتفاهما معًا على نهج واحد في التربية.

فلا يجوز أن يأخذ الوالد منهج الشدّة والقسوة على الأولاد، على حين تأخذ الأمّ نهج التساهل والتدليل، وإنّما عليهما أن يتّخذا المنهج الوسط الذي لا يسرف في الشدّة ولا يغلو في التدليل.

ولهذا أنكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على بعض زعماء الأعراب الذي استغرب أن يقبّل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خدّ أحفاده، حتى قال للنبيّ: ” إنّ لي عشرة من الولد، ما قبّلت منهم أحدًا قطّ “، فنظر إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قال له: “من لا يرحم لا يُرحم”.

بقلم د. يوسف القرضاوي

مقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.