سنتناول هنا موضوع التأديب بالعقاب الإيجابي و نشرح هذا المفهوم الذي يجهله كثير من المربّين. التوازن في تربية الطفل مطلوب، و اللين والرأفة هي الأصل في التعامل معه، و لكن هل تعني الليونة إفساح المجال للطفل ليفعل ما يشاء و ينطق بما يشاء و يتصرّف كما يشاء؟

لقد تكلّمنا أكثر من مرّة عن القواعد و الضوابط و القوانين التي ينبغي أن تكون حاضرة في حياتنا الأسرية و في علاقاتنا مع أبنائنا، وخلصنا علمياً و تربوياً و دينيّاً  أنّها ضرورة لاستقامة الطفل و الحياة الأسرية.

إن التربية جهد مبذول، و تحتاج لنفس طويل و صبر و تأنٍّ و برمجة يوميّة لنرى النتائج الإيجابية بعد حين من الزمن.

والتجاهل مفسدة في كل شيء، و في تربية أبنائنا و توجيههم يعدُّ قاتلاً للسلوك الإيجابي، قاتلاً للقدرات الكامنة في شخصيّة الطفل.

و التعجّل يدفع الآباء و الأمّهات في الغالب إلى اللجوء لوسائل تربوية غير صحيحة من أجل رؤية النتائج الإيجابية سريعاً على أبنائهم، و من هذه الوسائل العقاب البدني و الضرب.

لن يضرب خياركم

يتحدّث الكثيرون عن العقاب البدني والضرب ويستشهدون بنصوص في غير موقعها و يجرون قياسات مع فوارق معتبرة لا يصحّ معها القياس.

و يجزّئون النصوص، يأخذون منها ما يريدون ويتركون ما لا يماشي حججهم.

إنّ التأديب من خلال الضرب و العقوبة البدنيّة كان دوماً محلّ اختلاف بين الفقهاء، ومحل تضارب بين علماء التربية و السلوك.

هل نضرب أبنائنا؟ و ما المصلحة المرجوّة من ذلك؟ و ما المفسدة كذلك؟

و مهمٌّ جداً أن نطرح فعلاً هذه الموازنة بين المصالح والمفاسد في التأديب من خلال العقوبة البدنية متّبعين في ذلك منهج القرآن الكريم “يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس، و إثمهما أكبر من نفعهما”.

المنافع ثابتة لكنّها لا تكفي لإباحة الخمر والميسر.

حديث الضرب على الصلاة كامل بمفاهيمه النبوية:

يستدلّ المؤيّدون للضرب بكونه وسيلة تربوية للتأديب بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، و فرّقوا بينهم في المضاجع). (المسند/ 6756 – قال الشيخ الألباني: حسن صحيح).

ثمانية دروس تربوية من الحديث:

 1. تعويد الأطفال من سنّ السابعة:

وهذا واضح بصيغة الأمر (مُروا) و الأمر يفيد الوجوب.

والحكمة من ذلك أن يستأنس الطفل و يعتاد على الصلاة فيسهل عليه إقامتها إذا وصل سنّ البلوغ.

 2. الطفل أكثر استعداداً في سنّ السابعة:

تدريب الطفل وتعويده على الصلاة في هذا السنّ لأنّه أنسب لطبيعة الطفل، فهو يومها أسلس قياداً وأسرع مواتاة و أميل إلى التقليد، ولم تغلب عليه عادات تمنعه، بل هو في طور بناء عاداته السلوكية، و عزيمته مرتفعة لا يشوبها شائب.

 3. التدرّج سنّة تربوية وطبيعة بشرية:

ثلاث سنوات من العمل و التعويد و التشجيع و التدريب كافية لأن يلتزم الطفل بالصلاة و يبرمج عليها عقيدة وسلوكاً و نظاماً في حياته.

و هذه السنوات الثلاث تعدّ تدرّجاً في عملية الالتزام بالصلاة.

 4. مسؤولية الكبار أعظم، و الضرب مطلوب على الكبير قبل الصغير:

لا أحد من المهتمّين بالمجال التربوي يطرح المعادلة المعكوسة، متى نضرب الآباء والأمهات؟

و باعتقادي، إنّ هذا السؤال أهمّ بكثير من غيره ( متى نضرب الأطفال؟)

و قد قال شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً رائعاً في هذا المجال: ( و يجب على كلّ مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة، حتى الصغار الذين لم يبلغوا.

قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، و فرّقوا بينهم في المضاجع).

و من كان عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة فإنّه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويعزّر الكبير على ذلك تعزيراً بليغاً، لأنّه عصى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم )  – مجموع الفتاوى 22/50

 5. ثلاث سنوات كافية للبرمجة الإيجابية:

ثلاث سنوات تعني أنّ 5475 صلاة مرّت على الطفل، و أنّ وقتاً طويلاً انتظم فيه الطفل.

و هذا العدد من التكرار يعدّ كافيا بشكل كبير لبرمجة الطفل على إقامة الصلاة اعتقاداً و ممارسة و إدارةً للوقت (نظاماً و انتظاماً).

وأيُّ طفل خضع لهذا العدد الهائل من التكرار لا يمكنه أن يشذّ على الصلاة أو يتركها.

 و لا يفعل ذلك إلا الحالات الشاذّة، و الشاذّ علاجه الكيّ.

6. الصلاة أنموذج للتعامل مع باقي السلوكيات:

الصلاة عمود الدين، و ركن أساس في الإسلام، و تركها كفر عند جمهور العلماء و تركها (اعتقاداً) كفر بالإجماع.

و لهذه المكانة العظيمة للصلاة خصّصها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديث: (مروا).

و السؤال المطروح هل يُضرب الطفل على عناده وهو ابن ثلاث سنوات؟ أو على كثرة حركته؟ أو على تخريبه أثاث البيت؟ أو على كذبه أحياناً؟

مهما اختلفنا حول الإجابة فإنّنا لا يمكن أن نختلف على دور الأب و الأمّ التربوي، و هو تعليم الطفل لفترة ثلاث سنوات قبل أن يحقّ لنا اللجوء إلى العقاب.

علماً بأنّ الكثير من سلوكيات الطفل المزعجة هي علامات النموّ السليم في حياته، و إنّما الجهل و قلّة الصبر يجعلانها مزعجة.

و قياساً على الصلاة فإنّه يفهم من الحديث ما يلي:

أ- ثلاث سنوات من التعليم: بمختلف الوسائل التشجيعية والتدريبية.

ب- لا يُضرب الطفل قبل عشر سنوات: ضرب الطفل قبل أن يصل إلى سنّ عشر سنوات فيه منافع يراها الآباء عاجلاً، لكنّ مفسدته على المدى الطويل أكبر بكثير.

 7. الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما ضرب قطّ.

إنّ الاستدلال بحديث الضرب مطلوب بفهم الحديث فهماً شمولياً، و المطلوب كذلك الاستدلال و استحضار أنّه صلّى الله عليه وسلّم ( ما ضرب امرأة له، ولا خادماً، ولا ضرب شيئاً بيده قطّ، إلا في سبيل الله، أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله).

8. التأديب بالاحترام و التقدير و المحبّة و الثقة لا بالخوف والهيمنة.

يدّعي البعض أن الضرب يمنح المربين هيبة في نفوس الأبناء.

و نحن نقول: و من قال إنّنا نريد أبناءً يهابون المربّين آباء كانوا أم مدرسين؟

إنّنا، وكما بيّنا سابقاً، نريد الاحترام و التقدير القائمين على المحبّة و الثقة لا على الخوف و الهيبة والعصا.

طبيعة الطفل هيَ أنّه يحترم و يقّدر من يحب لا من يخاف.

و السلوك المطلوب أن نجعل الطفل يحبّنا و يخاف غضبنا بتوازن.

 و من يغلّب جانب الغضب فإنّه يولّد عند الطفل دوافع سلوكية نابعة من خارج نفسه و ذاته، بينما المطلوب تربوياً أن يكون الدافع نابعاً من داخل الإنسان (إخلاص، قبول خوف ) و يُقوَّم هذا الدافع و يُزيّن بحوافز (حلاوة).

الأساليب العقابية في الميزان

بيّنّا سابقاً المفاهيم التربوية المستقاة من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرّقوا بينهم في المضاجع) وسنتبع في حديثنا عن العقاب الإيجابي منهجية قائمة على مناقشة الأساليب العقابية السلبية و مدى تأثيرها على شخصية الطفل، وكذا الآثار المترتّبة و مدى نجاعتها في تعديل السلوك لدى الأطفال، هادفين إلى محو هذه الأساليب الخاطئة في تعاملنا اليومي مع الأطفال لتأسيس طرق سليمة لعملية التأديب الإيجابي.

– أمّ تضرب و طفلٌ يزداد سلوكه سوءاً:

تقول إحدى الأمّهات التي اعتادت معاقبة ابنها بالضرب لتعديل سلوكه: (نعم كنت أضربه باستمرار، و في كلّ وقت أواجهه فيه كان يغدو أسوأ ممّا كان، و يعود إلى السلوك نفسه في نهاية الأسبوع).

 – الضرب أسلوب انهزامي:

ضرب الطفل الصغير على سلوكيات مزعجة من مثل العناد وكثرة الحركة و إزعاج الضيوف هو أسلوب انهزامي من الكبار وسياسة غير صحيحة في التربية لأنّها وسيلة المتسرّع و من لا يملك الأساليب التربوية الناجحة و من لا يقدر على التحكّم بانفعالاته و ضبط غضبه.

 من أضرار الضرب: خمس عشرة نتيجة سلبية

 1. ضرب الطفل يولّد كراهية لديه تجاه ضاربه ممّا يقتل المشاعر الإيجابية المفترض أن تجمع بينهما وتقرّبهما من بعض.

 2. اللجوء إلى الضرب يجعل العلاقة بين الطفل وضاربه علاقة خوف لا احترام وتقدير.

 3. الضرب ينشئ أبناءً انقياديين لكلّ من يملك سلطة و صلاحيات أو يكبرهم سناً أو قوة.

و هذا الانقياد يضعّف الشخصية لدى الأبناء ويجعلهم أسهل للانقياد والطاعة العمياء، لا سيّما عند الكبر مع رفقاء السوء.

 4. الضرب يقتل التربية المعيارية القائمة على الاقتناع و بناء المعايير الضرورية لفهم الأمور والتمييز بين الخطأ و الصواب و الحق و الباطل.

 5. الضرب يلغي الحوار والأخذ والعطاء في الحديث والمناقشة بين الكبار والصغار، و يضيّع فرص التفاهم وفهم الأطفال ودوافع سلوكهم و نفسيّاتهم وحاجاتهم.

 6. الضرب يفقر الطفل ويحرمه من حاجاته النفسية للقبول والطمأنينة و المحبة.

 7. الضرب يعطي أنموذجاً سيّئاً للأبناء و يحرمهم من عملية الاقتداء.

 8. الضرب يزيد حدّة العناد عند غالبيّة الأطفال ويجعل منهم عدوانيين.

 9. الضرب قد يضعف الطفل و يحطّم شعوره المعنوي بقيمته الذاتية فيجعل منه منطوياً على ذاته، خجولاً لا يقدر على التأقلم و التكيّف مع الحياة الاجتماعية.

 10. الضرب يبعد الطفل عن تعلّم المهارات الحياتية (فهم الذات، الثقة بالنفس، الطموح، النجاح) ويجعل منه إنساناً عاجزاً عن اكتساب المهارات الاجتماعية (التعامل مع الآخرين أطفالاً كانوا أم كباراً).

 11. اللجوء إلى الضرب هو لجوءٌ لأدنى المهارات التربوية و أقلّها نجاعة.

 12. الضرب يعالج ظاهر السلوك ويغفل أصله. ولذلك فنتائج الضرب عادة ما تكون مؤقّتة ولا تدوم عبر الأيام.

13. الضرب لا يصحّح الأفكار ولا يجعل السلوك مستقيما.

 14. الضرب يقوّي دوافع السلوك الخارجيّة على حساب الدافع الداخلي الذي هو الأهم دينيّاً ونفسيّاً.

فهو يبعد عن الإخلاص و يقرّب من الرياء والخوف من الناس، فيجعل الطفل يترك العمل خوفاً من العقاب، و يقوم بالعمل من أجل الكبار. وكلاهما انحراف عن دوافع السلوك السويّ الذي ينبغي أن يكون نابعاً من داخل الطفل (اقتناعاً، حباً، إخلاصاً، طموحاً، طمعاً في النجاح وتحقيق الأهداف، خوفاً من الخسارة الذاتية).

 15. الضرب قد يدفع الطفل إلى الجرأة على الأب والتصريح بمخالفته والإصرار على الخطأ.

لا يكون الرفق في شيء إلا زانه

صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (إنّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه) و في رواية (إنّ الله رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ومالا يعطي على سواه) فمن أولى بالرفق من تلك الثمرات الطيّبة، الرقيقة، البريئة، التي يتعامل المربّون معها؟ ومن أولى بالرفق من فلذّات أكباد الآباء و الأمّهات؟

ومتى يكون الرفق أوجب ما يكون مع هؤلاء الصغار؟ إنّنا لا نحتاج أن نترفّق بالطفل حين يتفوّق في دروسه وتحصيله، ولا حين يبزّ أقرانه في الفهم و الاستجابة، و لكن حين يبدو على الطفل ما نظنّه غباءً و تقصيراً في الفهم والتحصيل.

نحتاج الرفق أشدّ ما نحتاجه في مواقف نرى فيها ألباب كثير من المربّين تطيرُ فلا يجدون إلا العنف أو التهديد ليوقظوا الطفل من غفوة عقله.

قد تنجحُ هذه الوسيلة مع بعض الأطفال في بعض الحالات فيظنّ المربّي أنّها الوسيلة الناجعة دائماً ومع الجميع، و ينسى هؤلاء المربّون أنّ الأسباب التي تؤدّي بالطفل إلى هذا الموقف لا حصر لها، و أنّ علاج الغفلة أو التقصير يتنوّع و يتعدّد بمقدار تنوّع أسبابها وتعدّدها.

يقول ابن خلدون في مقدمته:

إنّ الشدّة على المتعلّمين مضرّة بهم، وذلك أنّ إرهاف الحدّ في التعليم مضرّ بالمتعلّم سيّما أصاغر الولد، لأنّه من سوء الملكة.

و من كان مربّاه بالعسف والقهر من المتعلّمين سطا به القهر، و ضيّق على النفس انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمله على الكذب و الخبث، وهو التظاهر بغير ما يضمر خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، و علّمه المكر و الخديعة لذلك، و صارت له هذه عادةً و خلقاً، و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع و التمرّن.

لقد تحدّثنا عن بعض النتائج السلبية لممارسة الضرب في عملية تأديب الأطفال لا سيما من لم يبلغ منهم العشر سنوات.

بقلم د. مصطفى أبو سعد

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو Fleur-27.png

مقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.