نصيحة لكل الأباء والأمّهات: اغرس فضيلة التعفّف عند طفلك المراهق. إنّ من أفضل ما يأتيه المراهق في حبّه التعفّف وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألاّ يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألاّ يعصي مولاه المتفضّل عليه الذي جعله مكانا وأهلا لأمره ونهيه، وأرسل إليه رسله، وجعل كلامه ثابتا لديه، عناية منه بنا وإحسانا إلينا.
وإنّ من هام قلبه وشغل باله واشتدّ شوقه وعظم وجده، ثمّ ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته، وأن يقهر دينه، ثمّ أقام العدل لنفسه حصنا، وعلم أنّها النفس الأمّارة بالسوء، وذكّرها بعقاب الله تعالى، وفكّر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذّرها من يوم المعاد والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بيّنة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كلّ مدافع بحضرة علاّم الغيوب “يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، يوم وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، يوم وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، يوم الطامّة الكبرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى، فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، واليوم الذي قال الله تعالى فيه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.
عندها يقول المراهق العاصي: “يا ويلَتى، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا”، فكيف بمن طوي قلبه على أحرّ من جمر الغضى، وطوي كشحه على أحدّ من السيف، وتجرّع غصصا أمرّ من الحنظل، وصرف نفسه كرها عمّا طمعت فيه، وتيقّنت ببلوغه وتهيّأت له ولم يحل دونها حائل، لحريّ أن يسرّ غدا يوم البعث، ويكون من المقرّبين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأن يأمن روعات القيامة وهول المطلع، وأن يعوّضه الله من هذه القرحة الأمن يوم الحشر.
إنّ الطفل المراهق لا يصل إلى الافتتان إلاّ لفرط شهوة قد كلبت عليه؟
أو ترى أنّ الله تعالى يضيّع له المقام إن استعفّ عن الحرام؟ كلاّ، إنّه لأكرم من ذلك وأعلم.
وما أقدّر إلاّ أحد وجهين لا شكّ فيهما: إمّا طبع قد مال إلى غير هذا الشأن، واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه، فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين، ولا في يوم ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لجادت طباعهم، و أجابوا هاتف الفتنة، ولكنّ الله عصمهم بانقطاع السبب المحرّك نظرا لهم وعلما بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد، لا إله إلا هو.
وإمّا بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرّد انقمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخير أراد الله عزّ وجلّ لصاحبه، جعلنا الله ممّن يخافه ويرجوه، آمين.
عن أبي هريرة، عن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أنّه قال: “سبعة يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبُه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”.
ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار، وإتعاب الأبدان، وإجهاد الطاقة، واستنفاد الوسع، واستفراغ القوّة في شكر الخالق الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئهالها، وامتنّ علينا بالعقل الذي به عرفناه، ووهبنا الحواسّ والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبّرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نهتد إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضّلنا على أكثر المخلوقات، وجعلنا مستودع كلامه ومستقرّ دينه، وخلق لنا الجنّة دون أن نستحقّها، ثمّ لم يرض لعباده أن يدخلوها إلاّ بأعمالهم لتكون واجبة لهم، قال الله تعالى: “جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”، ورشّدنا إلى سبيلها، وبصّرنا وجه ظلّها، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقّا من حقوقنا قبله، ودينا لازما له، وشكرنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قوّاها، وأثابنا بفضله على تفضّله.
هذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تكيّفه الألباب، ومن عرف ربّه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذّات الذاهبة والحطام الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعرّ لسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم ينته إليه أمل.
فأين المذهب عن طاعة هذا الملك الكريم، وما الرغبة في لذّة ذاهبة لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها، وإلى كم هذا التمادي وقد أسمعنا المنادي، وكأن قد حدا بنا الحادي إلى دار القرار، فإمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار، ألا إنّ التثبّط في هذا المكان لهو الضلال المبين.
جعلنا الله وإيّاك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين.
آمين، آمين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما.
المصدر: ابن حزم الأندلسي