يتناول هنا الدكتور مصطفى أبو سعد موضوع أطفالنا و الحاجة إلى التأديب و يشرح فيه كيف ننشئ أطفالا تنشئة سويّة.

حاجة الطفل إلى التأديب:

إنّ الطفل بقدر حاجته إلى المحبّة والاعتبار والمدح والقبول والطمأنينة، يحتاج كذلك إلى التأديب و وضع الضوابط و القواعد في حياته وعبر مراحل نموّه العمرية.

ويخطئ من يظنّ وهو يمارس أبوّته أنّ الحبّ وحده قادر على تنشئة الأطفال خير تنشئة.

فسياسة “دع ابنك يفعل ما يشاء” و “لا تقل كلمة (لا) لابنك” تنشئ غالبا أبناء لا ينضبطون بضابط و لا يحترمون أحداً و لا يلتزمون بدين أو عرف أو قانون.

بل إنّ الطفل الذي لا يؤدّب بالضوابط والقوانين والقواعد وحضور توجيهات الوالد قد ينشأ معتقداً أنّه غير محبوب وغير مقبول لدى أسرته.

إنَّ الإنسان لا ينعم بالحرّية، إلا إذا عرف حدود حريّته.

و قد قال أحد المختصّين التربويين و هو د. بينز غروفورد:

“إنّ المشكلات النفسية بين الناشئة لا يسبّبها التشدّد في التأديب بل انعدامه.”

وقال هارون الرشيد لمؤدّب ولده الأمين: “ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ و يألفه، و قوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنّ أباهما فعليك بالشدّة والغلظة.”

سعادة الطفل في تأديبه:

إنّ ابنك إنسان، و أنت تبتغي سعادته، و سعادته لن تأتي بحصاره في نمط معيّن من الحياة تفرضه عليه، و كذلك فإنّ سعادة الابن لن تأتي بإطلاق العنان ليفعل كلّ ما يريده.

إنّ إحساسك الداخليّ يقول لك: إنّك أنت أيضا تحتاج إلى رعاية ابنك كما يحتاج ابنك لرعايتك، و إنّك ستؤدب ابنك التأديب اللازم عندما تراه قد خرج عن الحدود، و إنّك لن تعاقب نفسك بالإحساس بالذنب لأنّك فعلت ذلك.

استعن بتجارب الغير:

عندما تنظر إلى غيرك من الآباء، عليك أن تتعلّم من تجاربهم.

فإذا نظرت إلى أب يكثر من الصراخ في وجه ابنه عند أدنى بادرة للخروج عن السلوك المطلوب، ستجد أنّ هذا الابن يكرّر للمرّة المئة الخروج عن ذاك السلوك المطلوب.

و هنا يمكنك أن تسأل نفسك: لماذا لم يمتثل الابن لطاعة أبيه؟

والجواب هو أنّ كثرة التوبيخ وكثرة الإهانة للطفل وكثرة الصراخ في وجهه تجعله يسيء الظنّ بنفسه و بقدراته، و لذلك فإنَّه يكرّر الخطأ.

 وقد تنتقل لرؤية آخر تزوره في منزله وهو يرى ابنه الصغير يحاول أن يضع الشريط في الجهاز بطريقة غير صحيحة، فيقوم بهدوء لابنه فيقول: “يا بنيّ، أنت تريد أن تشاهد هذا الشريط، و بسبب شدّة استعجالك فإنّك تضعه بطريقة غير صحيحة.

دعني أضع لك الشريط في الجهاز وراقبني، و بعد ذلك سأخرج هذا الشريط من مكانه لتضعه أنت.

إنّ الابن في هذه الحالة يراقب أباه وهو يؤدّي عملية إدخال الشريط بشكل صحيح في الجهاز، وبعد ذلك يقلّد الابن أباه في كلّ حركة من الحركات الصحيحة، وهنا يثني الأب على ابنه.

إنّ مثل هذا الأب قد نقل الخبرة بمنتهى الهدوء لابنه، و راقب ابنه و هو يكرّر الخبرة بمنتهى التشجيع.

وقد تنتقل إلى رؤية أب ثالث يأتي ابنه ليسأله عن كيفية خلق الله لهذا العالم، والأب مشغول بمراقبة مسلسل تلفزيوني.

إنّ مثل هذا الأب قد يقول لابنه بعصبيّة: ليس هذا هو الوقت المناسب للردّ على مثل هذا السؤال.

و قد يتصرّف الأب بلون آخر من السلوك، وهنا يقوم الأب من مكانه أمام التلفزيون ويفتح دائرة معارف مبسّطة، ويبدأ في الإجابة رابطاً بذكاء بين تفاصيل العلم المبسّطة وبين آيات القرآن الكريم حول خلق العالم.

التأديب لا يناقض الاحترام:

إنّ احترام الآباء للأبناء أمر أساس و مهمّ.

هذه هي الحقيقة النهائية التي يمكن أن نستخرجها من كلّ القواعد والنظريّات التي ظهرت في النصف الأخير من القرن العشرين.

و لكنّ الاحترام لا يجوز أن يتحوّل إلى ستار نخفي وراءه ضعفنا أو نهرب خلفه من ممارسة مسؤوليتنا نحو الأبناء.

و كذلك ليس جائزاً لنا أن نكبت غضبنا بدعوى أنّنا نخشى على الأبناء من القمع فنعيش في حالة غيظ، و يعيش الأبناء في حالة استهتار.

نعم للتأديب لا للقسوة:

كما إنّه ليس جائزاً تحويلُ غضبنا إلى قسوة مبالغ فيها إلى حدّ إهدار إنسانية الأبناء.

 إنّ هذا الإهدار يجعل الأبناء في حالة من الرعب المستمرّ من الحياة، و يزرع في نفوسهم التشاؤم، و يلقيهم في أحضان الإحساس بفقدان القيمة و الاعتبار.

إنّني لا أنسى على الإطلاق وجه ذلك الشابّ الذي كان والده يجلده كلّما أخفق في سنته الدراسية.

كانت طريقة الجلد مستوردة من العصور الوسطى، إذ يرقد الابن على ظهره ويمسك الأب بساقي ابنه بين فخذيه و يبدأ الضرب العنيف على بطن القدمين.

و الغريب أنّ هذا الابن كان يحفظ الكتب الدراسية عن ظهر قلب، و لكن ما إن يدخل الامتحان و يمسك بورقة الإجابة حتى ينسى كلّ شيء تماماً.

وعندما صحبه والده مرّة لاستشارة أحد الأخصّائيين الاجتماعيين، سأله الأخصّائي الاجتماعي: “ألا تعلم أنّ الدين الإسلامي يوجب عليك أن تلاعب ابنك سبعاً، وتؤدّبه سبعاً، وتصاحبه سبعاً وتترك له الحبل على الغارب مع التوجيه من بعد ذلك؟”

 و تساءل الرجل بدهشة كيف نسي ذلك رغم أنّه يحاول أن يطبّق كلّ فروضه الدينية.

و حاول الرجل أن يصاحب ابنه، و أن يتخلّى عن عادة تحفيظه الكتب الدراسية، و هنا اجتاز الابن بالنجاح امتحاناته كلّها حتّى صار مدرّساً.

إن القسوة الزائدة عن الحدود تظهر في أشكال التخلّف الدراسي أو في قسوة الأبناء على زملائهم وإخوانهم أثناء اللعب.

لا لسياسة الترصُّد:

وهناك نوع آخر من السلوك الأبوي بالغ القسوة وهو أن يحاول الأب أن يترصّد ابنه في أمور حياته كلّها، ويحاول أن يسيطر على الابن في كلّ لحظة من لحظات حياته.

وهذا معناه أنّ الأب يرتدي جلد ابنه.

وفي هذا تفريغ للابن من شخصيته، الأمر الذي يجعله إنسانا غير مميَّز.

إنّ السيطرة ضرورية لا جدال في ذلك، و لكن بشرط أن نترك للابن فرصة جيّدة لتكون له شخصيته الخاصّة به لئلا يصبح شخصاً متسلّطاً عند الكبر.

خطواتٌ أساسية في عملية التأديب الصحيحة الناجحة:

 1. استعمل التوجيه الإيجابي المرتبط بما تريد من الطفل أكثر من استعمال التحذيرات السلبية.

فالفعل الإيجابي يحدث أثرا إيجابياً أكثر من الفعل السلبي.

 2. أشبع حاجات الطفل للمدح و القبول و المحبّة و الطمأنينة فهي أفضل وسائل التأديب.

 3. هيّئ نفسك للتوقّعات وكن مستعدّا للتعامل مع المشاكل المحتملة والسلوكيات التي قد تظهر، وحاول إحاطة ابنك بسياج و حصانة وحماية منها قبل نشوبها و استفحالها.

 4. كن مبتسماً مشجّعاً ملاحظاً للإيجابيات، و ابتعد عن الاستياء والتذمّر و الانتقاد الدائم.

 5. لا تعط تفسيرات سطحية جاهزة للسلوكيات التي تراها عند ابنك، و حاول التعمّق في فهمها من خلال فهم دوافعها وطبيعتها، و الرسالة الخفيّة من ورائها.

 6. كن حازماً بدون عنف ولطيفاً بدون تساهل.

 7. لا تصرخ ولا تسخر ولا تتهكّم على ابنك فتلك من أسوأ الأساليب التربوية المدمّرة لشخصية الطفل.

 8. لا تكن آلة لإصدار الأوامر واستعمل لغة الإقناع واشرح ما تريد من ابنك.

 9. توقّع الاستجابة الفعلية و الطاعة من ابنك بعد فترة ليست بالقصيرة لأنّ الاستجابة السلوكية تحتاج للوقت و البرمجة المتكرّرة حتى تصبح سلوكاً و عادةً لدى الطفل خصوصاً، و الإنسان عموماً.

 10. لا تتّخذ قرارات سريعة، بل تمعّن و ادرس وكن هادئاً وأنت تفكّر في الحلول والأساليب التربوية.

 11. لا تمارس الأساليب نفسها مع كلّ الأبناء، فلكلّ طفل خصوصياته وظروفه.

إذ الطفل الأوّل يختلف عن الأوسط وكلاهما يختلفان عن خصوصيات الأصغر.

ولذلك فإنَّ مراعاة الفروق الفردية ضرورة تربوية لتعامل أفضل مع الأبناء.

 12. ضع قوانين و نظاماً و حدوداً لكلّ التصرفات، وكن أنت أوّل المحافظين عليها.

 تذكّر أنّه بإمكانك تعديل الكثير من السلوكيات المزعجة والتصرّفات الطائشة بالتدخّل الهادئ والحوار البنّاء و الملاحظات التذكيريّة المثمرة بدل العقاب واللجوء للعنف والقسوة والحرمان.

 14. لا تؤدّب أمام الجماعة و أمام الآخرين فإنّ الآثار السلبية لذلك على شخصية الطفل كثيرة، و يمكن أن ينتج عن ذلك ردود أفعال أكثر سلبية.

15. لا تؤدّب أبداً وأنت متوتّر و في حالة غضب وانفعال، تدخّل فقط وأنت هادئ، فالتدخّل العصبي والقرارات الآنية أثناء التوتّر غالبا ما تعقبها حالة ندم وردود أفعال غير مرغوبة.

 16. لا تؤدّب بإرغام الولد على فعل أشياء إيجابية، كإرغامه على قراءة القرآن أو حفظ 

الأحاديث لئلا نربطه سلبياً بالأشياء المحبوبة ويتّخذ منها موقفا سلبياً كذلك.

بقلم د. مصطفى أبو سعد

مقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.